أستميح إخوتي عذراً أن أسرد قصة شخصية حدثت لي مع الوالد/ التاي محمد العوض وهو رحمه الله شيخ قبيلة وشاعر معروف في المنطقة في زمانه - أتمنى أن يتحفنا الإبن/ جمال محمد عبدالرحمن بما يحفظه من درر أشعاره خاصة فيما يتعلق بناقته (بت العاصي) -ولكن توقف عن نظم الشعر كلياً بعد أدائه لفريضة الحج في السبعينات ووجه ملكة الشعر لديه نحو مدح المصطفى (ص) وقد تقدم به العمر ولكنه لآخر ايام حياته كان محتفظاً بصحته وجميع حواسه مدركاً لما حوله ... وفي إحدى إجازاتي السنوية وفي لحظة صفاء سألته عما إذا كان ما زال ممتنعاً عن شعر الغزل برغم كل الجمال الموجود حوله، ألم يحرك فيك ساكناً؟ فأجابني بأنه قد إمتنع عن قول الشعر نهائياً ويمكنه أن يسمعني ما يشاء من المديح أما شعر الغزل فقد فات أوانه ... فقلت له أبي أعلم أن هناك ما يحرك دواخلك وإحساس الشاعر لا يموت وكما قال شاعر البطانة الشيخ أحمد عوض الكريم أبوسن مخاطباً إحدى الحسان التي وصفته بـ (الشايب) فرد عليها نعم شايب لكن القلب شاب ... وبعد إلحاح منّي قال لي بأنه سوف يسمعني واحدة ولن يعيدها فقلت موافق وكانت آخر ما قاله ولم يزد عليها شيئاً حتى فارق الفانية (رحمه الله):
بقيت شايباً كبير في عرضي ما بنلام
وكل صبحاً جديد وارد علي غرام
النايرات خدوده زي بدر السبوع التام
نيتي أشريه كان تتقادم الأيام
رحمه الله فالأيام تذهب ولا تعود ولن يعود الصبا والشباب حتى يحقق مراده فهي أمنية حبيسة ولكن كما قال لن يفعل ما يناقض سنه وشيبته.
ذكرت هذه الأبيات لعمنا عثمان الأنصاري (رحمه الله) الذي سألني عن الوالد وعما إذا كان قد تصالح مع قرين الشعر لديه فما كان منه إلا صاغ بعض البيوت الشعرية (مجاراة) لهذه القصيدة فقال:
بقيت شايباً كبير وصدري فيه حديث
وكل صبحاً جديد أمره لي غميس
النايرات خدوده وفوقه كابي الديس
في آخر عمري نيتي أبقى ليه عريس
رحمهما الله - تلك أمة قد خلت- فقد كان الشعر لديهم يأتي بالفطرة .